الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: انتشار الفساد في ظل ضعف المؤسسات وتراجع الحقوق السياسية
آفاق مكافحة الفساد في المنطقة تبقى قاتمة
لمحة عن المنطقة
كشف مؤشر مدركات الفساد 2018 عن صورة قاتمة لواقع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث أن معظم بلدان المنطقة قد أخفقت في مكافحة الفساد على الرغم من أن قلة قليلة من البلدان قد أحرزت تقدما تدريجيا.
وحصلت الإمارات العربية المتحدة على 70 درجة وهو ما يجعلها في صدارة بلدان المنطقة في مؤشر مدركات الفساد، وتليها قطر بـ 62 درجة.
في حين احتلت سوريا (13 درجة) واليمن (14 درجة) وليبيا (17 درجة) أدنى مراتب المؤشر في المنطقة. كما أن سوريا واليمن تندرجان أيضا ضمن البلدان الخمسة الأدنى مرتبة في المؤشر على الصعيد العالمي.
وبمعدل 39 درجة تأتي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الأمريكتين ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ (معدل 44 درجة للمنطقتين)، وهي أفضل حالا بنسبة طفيفة فقط من أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى (معدل35 درجة) وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء (معدل32 درجة).
الفساد وأزمة الديمقراطية
لا عجب في أن الفساد لا يزال متفشياً ومترسخاً في منطقة ثبت فيها أن أي محاولة لإرساء الديمقراطية باتت كالمهمة المستحيلة، ولا تزال فيها الحريات المدنية تقبع تحت الرقابة الحكومية القمعية كما فُسخ فيها العقد الاجتماعي بين الدول ومواطنيها منذ عقود مضت.
ويبقى الفساد السياسي تحدياً مفصلياً، وذلك على الرغم من سعي عدة حكومات في المنطقة إلى وضع مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في صدارة أولوياتها الوطنية. ويعود ذلك في جزء منه إلى وجود أطراف متورطة في الفساد تبذل قصارى جهدها لإحباط هذه التدابير، وهي تتمتع للأسف بتأثير كبير على القادة السياسيين.
ومن بين أهم ركائز الممارسات الديمقراطية التي يُمكن الاستناد إليها لضمان نزاهة الحكومات هي وجود منظومة الضوابط والتوازنات. إلا أن هذه المنظومة في معظم بلدان المنطقة تتسم إما بالهشاشة أو غير موجودة أصلاً.
ولطالما تمكن أفراد من ذوي النفوذ من ممارسة تأثيرهم على السياسات الحكومية في عدة حكومات عربية ومن اختلاس المال العام وممتلكات الدولة واستغلالها لمصلحتهم الخاصة ولتزداد ثروتهم على حساب المواطنين. وأدى ذلك إلى تقزيم جهود مكافحة الفساد لتبقى مجرد حبر على ورق، حيث يتم سن القوانين فعلا ولكنها نادرا ما تُنفذ أو تُترجم إلى ممارسات على أرض الواقع.
وفي غياب إرادة سياسية صلبة لمكافحة الفساد في القطاع العام، ستواصل بلدان المنطقة في الضرب بالحقوق السياسية لشعوبها عرض الحائط. وما تشهده بلدان المنطقة من قمع حكومي للمواطنين الذين يعبرون عن مواقفهم أو يتظاهرون أو يمارسون حقهم في تكوين جمعيات أو مجموعات حقوقية يُشكل واقعاً خطيراً.
وفي ظل هشاشة منظومة الضوابط والتوازنات أو الحقوق السياسية الرامية إلى التصدي للتوجهات الاستبدادية، ستتعثر للأسف جهود مكافحة الفساد وستبقى الممارسات الاستبدادية والسلطوية تنخر في أنحاء المنطقة.
بلدان أحرزت تقدما
تحسنت درجات المغرب ومصر بثلاث نقاط لكل منهما، حيث سجلتا تباعا 43 و35 درجة. وعلى الرغم من ذلك، يبقى تأثير هذا التحسّن على حياة مواطني البلدين محتشما. فبمعدل 43 درجة في مؤشر مدركات الفساد العالمي، لا تزال الطريق طويلة أمام البلدين.
ففي المغرب، قامت الحكومة مؤخرا بسن قانون الحق في الحصول على المعلومات بعد سنوات من التأجيل والدعوات المتكررة من مجموعات ناشطة في المجتمع المدني لبلورة قانون أساسي في هذا الصدد. ولكن القانون المعتمد بصيغته الحالية يبقى محل انتقادات لاذعة من المجتمع المدني، بما في ذلك الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية في المغرب، ويرجع ذلك إلى النقائص التي تشوب هذا القانون والقيود الخطيرة التي يتضمنها.
وعمل الفرع الوطني منذ سنة 2006 على المطالبة بمشروع قانون يحترم المعايير الدولية. ولكن في نهاية المطاف احتوى القانون في نسخته النهائية على توجيهات غامضة فيما يتعلق باستخدام المعلومات وإعادة استخدامها، كما يتضمن سلسلة من الاستثناءات للدفاع الوطني والمعلومات المتعلقة بالأمن الداخلي والخارجي والمعلومات الخاصة مما أضعف قُوّة هذا القانون بشكل عام.
وإلى جانب تنصيصه على عقوبات قاسية على المواطنين الذين يعيدون استخدام المعلومات بما يؤدى إلى الإضرار "بالمصلحة العامة" أو "تحريف" مضمون المعلومات المحصل عليها، ثبت أن هذا القانون ليس فعالا تماما ولم يعكس عدة توصيات تقدم بها الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية في المغرب وتوصيات جهات أخرى في المجتمع المدني.
ولكن هذا لا يمنع أن هذه الخطوة التي اتخذها المغرب مكنته من الانضمام إلى شراكة الحوكمة المفتوحة، وهي شبكة متعددة الأطراف تضم حكومات ومنظمات من المجتمع المدني تعهدت بمكافحة الفساد. وتمثل هذه الشراكة منبرا هاما يضم أكثر من 70 دولة مشاركة ويعمل على تعزيز الشفافية في العالم.
وفي مصر، على الرغم من تقدمها بثلاث نقاط على المؤشر ، تبقى مظاهر التحسن على أرض الواقع ضئيلة، حيث تعاني البلاد حاليا من مشاكل جسيمة على مستوى انتشار الفساد. ويستمر أيضا استهداف منظمات المجتمع المدني بحظر السفر واعتقال الناشطين بشكل ممنهج. وتشكل هيئة الرقابة الإدارية الجهة الأساسية المُكلفة بالتحقيق في قضايا الفساد، وتعمل
على إرجاع بعض أملاك الدولة المسروقة واعتماد استراتيجية مكافحة الفساد لأربع سنوات.
بلدان شهدت تراجعا
تواجه عدة بلدان مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق تحديات بسبب عدم الاستقرار وانتشار الإرهاب والحروب والنزاعات، وذلك ما يبقيها في أدنى مراتب المؤشر.
وسجل اليمن وسوريا أشد انخفاض في المؤشر خلال السنوات القليلة الماضية. حيث تراجع اليمن بخمس درجات على امتداد السنوات الأربع الماضية، إذ انتقل من 19 درجة سنة 2014 إلى 14 درجة سنة 2018. ويعكس هذا التغيير في جزء منه العلاقة المباشرة بين الحرب والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وانتشار الفساد.
أما سوريا فقد تراجعت بـ 13 درجة خلال السنوات الثماني الماضية، حيث انتقلت من 26 درجة سنة 2012 إلى 13 درجة سنة 2018. وعلى غرار السنوات الماضية، بقيت سوريا في أدنى مراتب المؤشر، لما مرت به من نزاعات عنيفة خلال السنوات القليلة الماضية. ولا عجب في أن يؤدي عدم استقرار المؤسسات الحكومية والغياب التام للحقوق السياسية ومنظومة الضوابط والتوازنات إلى تفشي الفساد في سوريا.
وقد حصل السودان* على 16 درجة في مؤشر مدركات الفساد للسنة الثانية على التوالي. وبسبب ما يواجهه من تحديات جراء الإرهاب والحروب والنزاعات، يبقى في أدنى مراتب المؤشر. ومنذ كانون الأول ديسمبر 2018 قُتل العديد من المحتجين في
السودان لتعبيرهم عن مواقفهم ومطالبهم لمحسابة الفاسدين. حيث أن الفساد الحكومي أحد أهم أسباب الاحتجاجات.
دول تحت المجهر
ستوضع كل من الأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر ولبنان تحت المجهر خلال السنوات المقبلة. فهي بلدان مستقرة نسبيا، ولكن سيُسلط عليها الضوء لوضعها الجغرافي أو الاقتصادي.
وحصل الأردن على 49 درجة ليسجل بذلك ارتفاعا بدرجة واحدة في المؤشر منذ السنة الماضية. وفي حزيران / يونيو 2018، نزل مواطنون أردنيون إلى الشوارع للاحتجاج على مشروع قانون ضريبي يستوجب من المواطن أن يتحمل تسديد الفواتير المالية المنجرة عن الحكومات الفاسدة، والتي ازداد حجمها بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية.
ونجح المواطنون في الإطاحة بالحكومة حيث استُبدل رئيس الوزراء السابق بقيادي جديد وعد بإحداث التغيير. ولكن، على الرغم من أن الحكومة الجديدة أعطت الأولوية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، يتعين عليها الآن أن تفي بتعهداتها. كما أن وجود أطراف متنفذة خفية يُشكل تحديا آخراً يعيق أي محاولات حكومية لتحقيق التقدم في خطط مكافحة الفساد.
وفي تقرير صادر عن فرعنا الوطني، رشيد للشفافية والنزاهة، يتضمن استعراضاً لالتزام الأردن بالهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة، قدم الفرع الوطني مجموعة من للحكومة من أجل تحسين جهودها الرامية إلى مكافحة الفساد. وأوصى التقرير بشكل خاص بتحقيق الاستقلالية المالية والإدارية لكل المؤسسات العامة التي تعمل على ملف مكافحة الفساد، وتعزيز حماية المجتمع المدني، ومراجعة التشريعات بحيث تضمن تكريس حرية التعبير.
وعلى الرغم من تسجيل الإمارات العربية المتحدة وقطر أعلى الدرجات في المؤشر مقارنة ببقية بلدان المنطقة، إلا أن ذلك عائد في جزء كبير منه إلى مستوى مقومات الدولة والتنمية البشرية، أي فعالية الإدارة العامة، والمستوى المرتفع للناتج المحلي الإجمالي والصحة والتعليم.
ولكن رغم متانة مقومات الدولتين في هذه المجالات، ما تزال كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر تفتقران للمؤسسات الديمقراطية واحترام الحقوق السياسية. ويجعل ذلك من جهود مكافحة الفساد رهينة الإرادة السياسية للطبقة الحاكمة الحالية، التي يمكن أن تتغير في أي لحظة وتتجاهل أي تحسينات في جهود مكافحة الفساد.
علاوة على ذلك، تمكنت الحكومة في قطر من التخلي على عدة مستويات من البيروقراطية لتعزيز جهود مكافحة الفساد في البلاد، ولكن يبقى الغموض مُخيما على مستوى المناصب الرفيعة في الحكومة.
وصدرت في العام الماضي تحقيقات أجراها مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) ومركز دراسات الدفاع المتقدِّمة (C4ADS) كشفت عن تحول دبي إلى مركز عالمي رئيسي لتبييض الأموال. ووفقا لهذا التقرير، يُمكن شراء عقارات في دبي تُقدر بملايين الجنيهات نقدا ولن تُطرح على المشتري سوى بعض الأسئلة القليلة. وهذا ما أدى إلى تحول دبي إلى جنة لتبييض الأموال، يتوجه إليها المتورطون في الفساد وغيرهم من المجرمين لشراء عقارات فخمة دون أي قيود تُذكر.
وفي لبنان، أثارت الانتخابات التي اُجريت مؤخرا مخاوف إزاء تمويل الأحزاب السياسية وسوء إدارة العملية الانتخابية. وعمل فرعنا الوطني، الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية، على تسليط الضوء على هذه الجوانب السلبية أمام المسؤولين الحكوميين والرأي العام. ولكن بعد ستة أشهر من الانتخابات، لم يتمكن رئيس الوزراء من تشكيل حكومة جديدة في بلد يسود فيه الاستقطاب بدرجة عالية.
ويبقى الفساد السياسي وتضارب المصالح في صدارة التحديات الكبرى التي تحول دون تحقيق أي تقدم في لبنان. ووفقا لآخر تقاريرنا، لبنان: التقدم نحو تحقيق الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامةٍ، يفتقر الإطار القانوني للبلاد واللوائح المتعلقة بتمويل الأحزاب السياسية إلى بعض العناصر الجوهرية، بما في ذلك معايير الشفافية والمساءلة.
التوصيات
- ضمان الحريات السياسية، مع فسح مجال أكبر للمساءلة وتعزيز حماية المبلغين عن الفساد، والصحفيين والناشطين الحقوقيين.
- مراجعة القوانين الانتخابية لضمان قوة البرلمانات ونجاعتها، مع التركيز بشكل خاص على شفافية تمويل الحملات السياسية.
- تحقيق استقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية للمساعدة على إعادة بناء الثقة بين المواطنين والدول.
- تطبيق وتفعيل قوانين حق الحصول علىالمعلومات.
* تم احتساب درجة السودان مع معدل منطقة جنوب صحراء افريقيا
CPI
For any press inquiries please contact [email protected]